بأقلام الشباببأقلام الشباب

رؤية في الإبداع الإنساني

رؤية في الإبداع الإنساني

    ثمة مسألة فكرية ومنهجية، تتطلب باستمرار إعمال العقل وتنشيط الذاكرة وتظهير الحل وبلورة الرؤية والموقف تجاهها وهي العلاقة بين الدين والابداع الإنساني. وما هو الموقف الذي تختزنه وتحتضنه قيم الدين تجاه الإبداع الإنساني بمختلف اشكاله ومستوياته?. وهل القيم والمبادئ الديني تقف حجر عثرة أمام الإبداع الإنساني?، أم هناك قضايا وإشكاليات اجتماعية وتاريخية، هي التي تمنع الإبداع وتتعامل مع عناصره ومتطلباته بنوع من الحذر والسلب. إننا اليوم بحاجة إلى حوارات فكرية وثقافية جادة، لبلورة الرأي وصياغة النظرية تجاه الإبداع الإنساني.

وذلك من أجل إثراء حياتنا الاجتماعية والإنسانية، بالمزيد من الإبداعات والعناصر الجمالية.

لهذا من الضروري التفريق هنا بين الدين كمجموعة من المبادئ والقيم الخالدة، التي تنسجم وفطرة الإنسان ونواميس الكون والوجود، وبين الدين كما هو معيوش وممارس. وذلك أننا لا ننكر تاريخية الحركة الإنسانية، لأن التاريخ عبارة عن حركة الإنسان ضمن ظروفه. إذ لا يمكن فصل التاريخ عن الإنسان وبالعكس. لذا فإن مسألة الوعي التاريخي في حركة الإنسان ومدى تمثله لما يطرح عليه من أفكار ورسالات، هي مسألة جد واقعية، ولا يمكن التنكر لها، لكننا عندما نريد أن نخضع النص لسياق التاريخ، فعلينا أن نحدد الموضوع بشكل دقيق، لأن هناك فرقاً بين القول أن القرآن كان خارج نطاق الزمن وخارج النطاق الإنساني وليس له أية علاقة بالإنسان الذي عاش في زمنه. وبين القول بأن القرآن انطلق في مفردات هذا الإنسان وفي أجوائه ولكن من أجل الخروج من الخاص إلى العام.

لذلك نستطيع القول: أن النص القرآني يتحرك مع الواقع ويصوره لنا ليخرجه من دائرته الزمنية، ليجعل منه سياقاً تاريخياً في مدى الزمن، بدل أن يكون سياقاً تاريخياً في داخل المرحلة الزمنية الخاصة.

وهذا الذي يميز القرآن الحكيم، الذي لم ينزل في صحراء فارغة، بل في أرض مليئة بالتعقيدات، ودخل في عمقها وتحرك في كل مواقعها وآفاقها، ولكنه تجاوزها لأنه كان يريد أن ينقل النموذج ويقدم الفكرة أو الحل ليتحرك في كل زمان ومكان، ونحن ندرك أن حركية الإنسان في التاريخ تخضع لهذا التصور القرآني.

لذلك ينبغي أن ندرس الإسلام ونتعرف على أحكامه من خلال نصوصه وكل ما يتصل به في حركته التاريخية مما له علاقة بمفاهيمه وتطبيقاته.

أما السقوط تحت تأثير كل تطور حديث يتحرك من خلال قواعد فكرية غريبة عن الإسلام، فهو أمر يؤدي بنا إلى أن نجعل الإسلام صالة عرض يمكن أن نضع فيها أي شيء.

ودائماً ثمة بعد إنساني في النص يتجاوز الزمان والمكان، بمعنى تجرده من خصوصيات البيئة المحلية، ليصل إلى مستوى مخاطبة كل إنسان بتكوينه الروحي والنفسي والأخلاقي. وهذا البعد هو الذي يسوغ عملياً كون النص القرآني عالمياً ومتفرداً.

إذ أن ملاك كون النص متفرداً هو إمكان تأويله وتفسيره بمعان ودلالات تتجاوز جيلاً أو عصراً أو بيئة ثقافية. والاجتهاد في المنظور الإسلامي على حد تعبير أحد المفكرين المعاصرين، هو نشاط داخل النص القرآني، ولا يمكن أن يكون في مقابله، على أن حركة الفكر البشري داخل النص الإلهي لا يمكن أن تكون حركة فاعلة ومنتجة، إن لم تكن حركة منتقلة تارة من النص القرآني إلى ميدان الكون وتارة من ميدان الكون إلى النص القرآني. فالكون هو مسرح التأمل والقراءة الميدانيين، والقرآن هو مسرح التأمل النظري.

وعليه ومن خلال الإطار النظري الآنف الذكر، نجد أن الدين الإسلامي، لا يقف حجر عثرة تجاه الإبداع الإنساني بكل صوره وأشكاله وأجناسه. وإن ما تعانيه ساحاتنا العربية والإسلامية على هذا الصعيد، ليس وليد قيم الدين، وإنما تدخلت عوامل سياسية وثقافية واجتماعية لوجوده. ولا يمكن بأي شكل من الأشكال أن نعتبر قيم الدين هي المسؤولة عن هذا الواقع.

فالدين الإسلامي أعطى للإنسان الحرية التامة في التأمل في الموجودات، والوصول إلى حقائق الكون والحياة من خلال أعمال العقل والتفكير.

إننا مع الإبداع الإنساني الذي يثري حياتنا معرفة وحيوية وجمالاً. وفي ضوء ذلك ينبغي ألا تتحرك إبداعات المبدعين في دائرة التكفير وعدمه، بل تكون خاضعة للبحث في سلامة التأويل من حيث المنهج العلمي في فهم النص وعدمه، على أساس مناقشة المفردات والمعطيات التي يقدمها كل فريق أمام الآخر. وربما يقودنا الحوار الموضوعي إلى حقائق جديدة وقناعات معرفية متميزة. كما إننا ندعو إلى ذلك لا من موقع العقدة من التجديد والإبداع والتنوير بل من موقع الرغبة في أن تكون لنا أصالتنا الثقافية ومرجعيتنا الحضارية.

وتراجع مستوى الإبداع في أية أمة، يرجع في تقديرنا إلى انهيار مصادر التجديد والتغيير والتطوير في الأمة. فحينما تسود أيدلوجيات التسويغ والتبرير، وتتضاءل إمكانية استخدام العقل، ويصاب الوجدان والشعور باليباس والتخشب، حينذاك تغيب كل أشكال الإبداع في المجتمع والأمة. وليس من قبيل الصدفة أن تقترن لحظات الإبداع في تجربتنا التاريخية مع لحظات النهضة والخروج من إسار الجمود، والعمل الجاد من أجل تكييف واقع الحال مع النظم المفاهيمية العليا.

فبوابة الإبداع في واقعنا المعاصر ليس الاستخفاف بقيم الدين والغيب، وإنما الانعتاق من كل القيود التي تحول دون ممارسة التفكير بشكل حر ومستقل.

وإن الإنصات الواعي والعميق لكل الآراء والأفكار والإبداعات، يجعل وعي الاختلاف وعياً جمالياً كتنوع أغصان الشجرة، كما أن تأصيل قيم الاجتهاد والبحث عن الحقيقة والتجديد، يساهم في إرساء دعائم الإبداع بكل صوره وأشكاله.

فالاجتهاد هو الأرضية الخصبة لنمو مستويات الإبداع في المحيط المجتمعي. والدين والعقل، هما توأما الخروج من قمم الجهل والتخلف، كما أنهما الأرضية الخصبة لإبداعات الإنسان على مختلف الصعد والمستويات. وبالقلق المعرفي والتساؤل والنقد، نمحو عطالة العقل واستقالة الفكر والوجدان. وأول الإبداع السؤال وجدله الإنساني، والإنسان بحسب المنظور الرباني أكثر الكائنات قابلية للجدل. لذلك ينبغي أن نبتهج بالسؤال، لأنه يمنحنا التحفز والرغبة ويدفعنا إلى البحث المضني والمغامرة العقلية.

والنص القرآني كما يقرر الكثير من العلماء والمفكرين، يعتمد على أسلوب النص المفتوح، أعني النص الذي لا تستوعبه قراءة واحدة، لأن كل قراءة له تفتح أمامك احتمالات جديدة وأفقاً جديداً لقراءة أكثر عمقاً، دون أن تنفد قراءة النص على تفجير الايحاءات المتجددة.

وأحسب أن هذا الأسلوب وهذه المنهجية، هي التي تحفز المبدعين والمفكرين للإبداع، وهي التي تتسع لجميع الآفاق والإمكانات. ومن خلال هذا الفهم المنظور، تتشكل بذور الإبداع في مسيرة الإنسان. وبالتالي فإن الدين الإسلامي وعبر نصه القرآني الخالد، يساهم في دعم وإسناد وتفجير الطاقات الإنسانية في سبيل رقي الوجود الإنساني فنا وعقلاً، وجدانا وفكراً، عاطفة وعلماً. والوعي البشري حينما يتحرك لإدراك حقائق النص الديني، يغتني بالوعي والقوة العقلية تؤهله للاستيعاب والإبداع. وبهذا فإن الدين لا يعطل روافد اغتناء الوعي والمعرفة في سبيل اغناء مضامين الإبداع الإنساني في مختلف المجالات والحقول.

فالمطلوب أن نمارس حريتنا وحقوقنا دون التجديف في الدين. ويخطأ من يتصور أن لا حرية مع احترام قيم الدين ومقدساته. فكما أن الحرية قيمة مقدسة بذاتها كذلك هو الدين، ولا يجوز بأي شكل من الأشكال معاداته. وبالذات إذا أدركنا أن احترام مقدسات الدين، لا يقف في وجه قيم الحداثة والتنوير، بل لو تعمقنا في قراءة تجارب التنوير في العالم، نجد أن على قاعدة الاحترام يتم التجديد والتنوير.

ويخطئ من يعتقد أن طريق التنوير مجابهة المجتمع في خياراته العليا ومقاومة عقائده الدينية. بل هذه العناصر الأخيرة هي التي تشكل الوعاء الحقيقي لنمو أسباب التقدم وتبلور خيارات التجديد في الواقع المجتمعي. فإهانة المقدسات، لا تقود إلى تكريس قيم التنوير في المجتمع، وإنما تزيد من أوار الاضطرابات وتفاقم العصبيات وتدخل الجميع في نفق مظلم مليء بالتهم والتخوين والتكفير.

وإن المسار الذي يتبعه بعض المثقفين العرب في إعادة إنتاج محنة خلق القرآن، وإدخال مجتمعاتنا في صراعات لا تقربنا من التقدم، وإنما تزيد واقعنا مأساوية وبعداً عن مشروعات التقدم الحقيقية. فالحرية قيمة مقدسة لدى كل الديانات السماوية والنظريات الإنسانية، فلا نحولها ببعض التصرفات وكأنها تقف بالضد من خيارات الأمة الحضارية.

إننا مع خيار الحرية للأكاديمي والباحث والمثقف والأديب والمفكر والصحافي، ولكننا في ذات الوقت نرى أن طائفة من الأدباء والمثقفين لا تحسن التعامل مع هذه القيمة، ولا تجيد التعامل الإيجابي مع هذا الخيار.

إن الحرية قيمة عليا مقدسة، ليست بعيدة عن قيمة المسؤولية، وهما معاً قيمتان متكاملتان، فلا حرية بلا مسؤولية، كما أن لا مسؤولية بدون الحرية.

لذلك فإننا ندعو المثقفين العرب إلى تأصيل مفهوم التفاضل بين القيم بمعنى أنه على المستوى الفعلي قد تتزاحم جملة من قيم الإنسان العليا، فما هي القيم ذات الأولوية، وما هو الناظم والمعيار لإرساء مفهوم التفاضل بين القيم?.

فمتى تبدأ قيمة الحرية وأين تنتهي لصالح قيمة إنسانية أخرى مقدسة، ليست على النقيض من هذه القيمة، كما أن تطبيقها ليس انتقاصاً منها وإنما تكامل معها.

محمد محفوظ