آداب الحوار وأثرها في البناء العقلي الانساني.
من فنون الحوار أن يعرف المحاور متى يتكلم، ومتى ينصت، ومتى يسأل ومتى يجيب، وأن يكون موضوعياً رافداً حديثه بالأرقام والتواريخ، وأن يخاطب الطرف الآخر بما يعرف ويفهم، فلا يُطالَب بأكثر منه، سواء في المجال العقدي أو الفكري أو العملي أو الثقافي، فعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: "حدثوا الناس بما يعرفون" وقوله(عليه السلام): "حدثوا الناس بما يعرفون وأمسكوا عما ينكرون"، وقال الإمام جعفر الصادق(عليه السلام): "ما كلم رسول الله(صلى الله عليه وآله) العباد بكنه عقله قط، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): "إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم"([1]).
مما لا شك فيه، إنَّ الحوار القرآني يبني العقل على سعة الأفق، وحب الاطلاع، والاستدلال لمعرفة الحق، وإعمال عقله بأي كيفية بعيداً عن العنف وهذه دعوة جميع الأنبياء(عليهم السلام) الذين أثاروا أمام الإنسان القضايا "التي تتحدى جهله وآفاقه الضيقة ليثيروا فيه طبيعة المواجهة يسأل أو يحتج...، كانت القضية أن يتحرك في الداخل ليخرج من جمود الصمت المتحجر في داخله.. وكانت الفكرة ان يتعلم كيف يتطلع إلى النور الآتي من الله.. وكان القرآن الكريم خاتمة الكتب السماوية التي جاءت لتعلم الإنسان كيف يكون الحوار طريقاً للفكر والعقيدة والعمل".
وكذلك كانت المحاورة للجانب العقلي للإنسان من جهتين، إحداهما: عرض الحقيقة نفسها وهو موضوع المحاورة، حيث يتاح لعقل المتلقي أن يفكر في هذه الحقيقة، والجهة الأخرى هي المباراة بين المتحاورين والصراع الفكري، فهذا يستدعي من كل منهما أن يعمل عقله، ومن أهداف القرآن الكريم في حثه للناس على النظر والتفكر واستخدام الحواس هو تربية العقل وجعله يتدبر لكي يصل إلى الحقيقة بنفسه ويؤمن بالله عن قناعه أكيدة من دون إكراه، بالإضافة الى ذلك أشكال الحوار فتنوعت في القرآن الكريم ومنها على سبيل المثال حوار الله سبحانه مع الملائكة، اذ يقول الله تعالى ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33)﴾ في هذه الآيات نلحظ منهجاً معيناً يتضمن تعليم الإنسان على المحاورة وعدم ترفع من هو ذو شأن عن ما هو دون، من بيان للمشورة، والحوار وعدم التهميش، مع كونه سبحانه غنياً عن عباده، وهو خالقهم، وكذلك ليبادر الملائكة بالسؤال عند المحاورة.
اما حوار الله تعالى مع الرسل والأنبياء(عليهم السلام) نجده في قوله﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ﴾ بالإضافة إلى ذلك الإطناب من لدن موسى(عليه السلام) مع الله سبحانه في ذكر أوصاف عصاه بسبب إن المقام كما يذكره العلامة محمد حسين الطباطبائي وهو مقام المناجاة والمسارَّة مع المحبوب يقتضي ذلك لأن مكالمة المحبوب لذيذة ولذا ذكر أولاً أنه عصاه ليرتب عليه منافعها العامة([2]).
وعليه نستنتج من ذلك فالبشرية الانسانية تحتاج إلى الحوار الحضاري سامياً لتحقيق التكاتف والتآزر بين أفرادها، لما عاشته من ويلات الحروب ونتائجها السلبية على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فهذا الحوار الحضاري سيحقق نتائج طيبة لأبناء الحضارات المختلفة.
اعداد جعفر رمضان
([1])الكليني، الكافي، 1/23. المجلسي، بحار الانوار، 2/77.
([2])محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، 14/122.